سورة يونس - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


قرأ الحسن بن أبي الحسن {وجوّزنا} بشد الواو، وطرح الألف، ويشبه عندي أن يكون {جاوزنا} كتب في بعض المصاحف بغير ألف، وتقدم القول في صورة جوازهم في البقرة والأعراف، وقرأ جمهور الناس {فأتبعهم} لأنه يقال تبع وأتبع بمعنى واحد، وقرأ قتادة والحسن {فاتّبعهم} بشد التاء، قال أبو حاتم: القراءة {أتبع} بقطع الألف لأنها تتضمن الإدراك، و{اتّبع} بشد التاء هي طلب الأثر سواء أدرك أو لم يدرك، وروي أن بني إسرائيل الذين جاوزوا البحر كانوا ستمائة ألف، وكان يعقوب قد استقر أولاً بمصر في نيف على السبعين ألفاً من ذريته فتناسلوا حتى بلغوا وقت موسى العدد المذكور، وروي أن فرعون كان في ثمانمائة ألف أدهم حاشى ما يناسبها من ألوان الخيل، وروي أقل من هذه الأعداد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله ضعيف، والذي تقتضيه ألفاظ القرآن أن بني اسرائيل كان لهم جمع كثير في نفسه قليل بالإضافة إلى قوم فرعون المتبعين، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكوفيون وجماعة {عدواً} على مثال غزا غزاً، وقرأ الحسن وقتادة {غزواً} على مثال علا علواً، وقوله {أدركه الغرق} أي في البحر، وروي في ذلك أن فرعون لما انتهى إلى البحر فوجده قد انفرق ومشى فيه بنو إسرائيل، قال لقومه إنما انفلق بأمري وكان على فرس ذكر فبعث الله جبريل على فرس أنثى وديق فدخل بها البحر ولج فرس فرعون ورآه وحثت الجيوش خلفه فلما رأى الانفراق يثبت له استمر، وبعث ميكائيل يسوق الناس حتى حصل جميعهم في البحر، فانطبق عليهم حينئذ، فلما عاين فرعون قال ما حكى عنه في هذه الآية، قرأ الجمهور الناس {أنه} بفتح الألف، ويحتمل أن تكون في موضع نصب، ويحتمل أن تكون في موضع خفض على إسقاط الباء، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو {إنه} بكسر الألف، إما على إضمار الفعل أي آمنت فقلت إنه، وإما على أن يتم الكلام في قوله {آمنت} ثم يتبدئ إيجاب {إنه} وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن جبريل عليه السلام قال ما أبغضت أحداً بغضي لفرعون، ولقد سمعته يقول {آمنت} الآية، فأخذت من حال البحر فملأت فمه مخافة أن تلحقه رحمة الله وفي بعض الطرق: مخافة أن يقول لا إله إلا الله فتلحقه الرحمة».
قال القاضي أبو محمد: فانظر إلى كلام فرعون ففيه مجهلة وتلعثم، ولا عذر لأحد في جهل هذا وإنما العذر فيما لا سبيل إلى علمه كقول علي رضي الله عنه، أهللت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، والحال الطين، كذا في الغريب المصنف وغيره، والأثر بهذا كثير مختلف اللفظ والمعنى واحد، وفعل جبريل عليه السلام هذا يشبه أن يكون لأنه اعتقد تجويز المغفرة للتائب وإن عاين ولم يكن عنده قبل إعلام من الله تعالى أن التوبة بعد المعاينة غير نافعة، وقوله تعالى {الآن وقد عصيت} الآية، قال أبو علي: اعلم أن لام المعرفة إذا دخلت على كلمة أولها الهمزة فخففت الهمزة فإن في تخفيفها وجهين: أحدهما أن تحذف وتلقى حركتها على اللام وتقر همزة الوصل فيه فيقال الحمر وقد حكى ذلك سيبويه، وحكى أبو عثمان عن أبي الحسن أن ناساً يقولون لحمر فيحذفون الهمزة التي للوصل فمن ذلك قول الشاعر: [الطويل]
وقد كنت تخفي حب سمراء حقبة *** فبح لان منها بالذي أنت بائح
قرأ نافع في رواية ورش لم يختلف عنه {الآن} بمد الهمزة وفتح اللام، وقرأ الباقون بمد الهمزة وسكون اللام وهمز الثانية، وقرأت فرقة {الآن} بقصر الهمزة وفتح اللام وتخفيف الثانية وقرأ جمهور الناس {ألأْن} بقصر الأولى وسكون اللام وهمز الثانية.
قال القاضي أبو محمد: وقراءات التخفيف في الهمزة تترتب على ما قال أبو علي فتأمله، فإن الأولى على لغة من يقول الحمر، وهذا على جهة التوبيخ له والإعلان بالنقمة منه، وهذا اللفظ يحتمل أن بكون مسموعاً لفرعون من قول ملك موصل عن الله وكيف شاء الله، ويحتمل أن كون معنى هذا الكلام معنى حاله وصورة خزيه، وهذه الآية نص في رد توبة المعاين، وقوله تعالى {فاليوم ننجيك} الآية، يقوي ما ذكرناه من أنها صورة الحال لأن هذه الألفاظ إنما قيلت بعد فرقة، وسبب هذه المقالة على ما روي أن بني إسرائيل بعد عندهم غرق فرعون وهلاكه لعظمه عندهم، وكذب بعضهم أن يكون فرعون يموت فنجي على نجوة من الأرض حتى رآه جميعهم ميتاً كأنه ثور أحمر، وتحققوا غرقه، وقرأت فرقة {فاليوم ننجيك} وقالت فرقة معناه من النجاة أي من غمرات البحر والماء، وقال جماعة معناه نلقيك على نجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها، ومنه قول أوس بن حجر: [البسيط]
فمن بعقوته كمن بنجوته *** والمستكن كمن يمشي بقرواح
وقرأ يعقوب {ننْجِيك} بسكون النون وتخفيف الجيم، وقرأ أبي بن كعب {ننحّيك} بالحاء المشددة من التنحية، وهي قراءة محمد بن السميفع اليماني ويزيد البريدي، وقالت فرقة: معنى {ببدنك} بدرعك، وقالت فرقة معناه بشخصك وقرأت فرقة {بندائك} أي بقولك {آمنت} الخ الآية، ويشبه أن يكتب بندائك بغير ألف في بعض المصاحف، ومعنى الآية أنا نجعلك آية مع ندائك الذي لا ينفع، وقرأت فرقة هي الجمهور {خلفك} أي من أتى بعدك، وقرأت فرقة {خلقك} المعنى يجعلك الله آية له في عباده، ثم بيّن عز وجل العظة لعباده بقوله {وإن كثير من الناس عن آياتنا لغافلون} وهذا خبر في ضمنه توعد.


المعنى لقد اخترنا لبني إسرائيل أحسن اختيار وحللناهم من الأماكن أحسن محل، و{مبوأ صدق} أي يصدق فيه ظن قاصده وساكنه وأهله، ويعني بهذه الآية إحلال بلاد الشام وبيت المقدس، قاله قتادة وابن زيد، وقيل بلاد مصر والشام، قاله الضحاك، والأول أصح بحسب ما حفظ من أنهم لن يعودوا إلى مصر، على أن القرآن كذلك {وأورثناها بني إسرائيل} [الشعراء: 59] يعني ما ترك القبط من جنات وعيون وغير ذلك، وقد يحتمل أن يكون {أورثناها} [الشعراء: 59] معناه الحالة من النعمة وإن لم يكن في قطر واحد، وقوله {فما اختلفوا حتى جاءهم العلم} يحتمل معنيين أحدهما فما اختلفوا في نبوة محمد وانتظاره حتى جاءهم وبان علمه وأمره فاختلفوا حينئذ.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التخصيص هو الذي وقع في كتب المتأولين، وهذا التأويل يحتاج إلى سند والتأويل الآخر الذي يحتمله اللفظ أن بني إسرائيل لم يكن لهم اختلاف على موسى في أول حاله فلما جاءهم العلم والأوامر وغرق فرعون اختلفوا.
قال القاضي أبو محمد: فمعنى الآية مذمة ذلك الصدر من بني إسرائيل، ثم أوجب الله بعد ذلك أنه {يقضي بينهم} ويفصل بعقاب من يعاقب ورحمة من يرحم، وقوله تعالى: {فإن كنت في شك} الآية، قال بعض المتأولين وروي ذلك عن الحسن: أن {إن} نافية بمعنى ما والجمهور على أن {إن} شرطية، والصواب في معنى الآية أنها مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك أو يعارض، وقال قوم: الكلام بمنزلة قولك إن كنت ابني فبرَّني.
قال القاضي أبو محمد: وليس هذا المثال بجيد وإنما مثال هذه قوله تعالى لعيسى {أأنت قلت للناس اتخذوني}. وروي أن رجلاً سأل ابن عباس عما يحيك في الصدر من الشك فقال ما نجا من ذلك أحد ولا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنزل عليه {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك}.
قال القاضي أبو محمد: وذكر الزهراوي أن هذه المقالة أنكرت أن يقولها ابن عباس وبذلك أقول، لأن الخواطر لا ينجو منها أحد وهي خلاف الشك الذي يحال فيه عليه الاستشفاء بالسؤال، و{الذين يقرأون الكتب من قبلك} هم من أسلم من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية: أنا لا أشك ولا أسأل وقرأ {فسل} دون همز الحسن وأبو جعفر وأهل المدينة وأبو عمرو وعيسى وعاصم، وقرأ جمهور عظيم بالهمز، ثم جزم الله الخبر بقوله {لقد جاءك الحق من ربك}، واللام في {لقد} لام قسم، و{الممترين} معناه الشاكين الذين يحتاجون في اعتقادهم إلى المماراة فيها، وقوله {مما أنزلنا إليك} يريد به من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في أمره إلا من بعد مجيئه، وهذا قول أهل التأويل قاطبة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الذي يشبه أن ترتجى إزالة الشك فيه من قبل أهل الكتاب، ويحتمل اللفظ أن يريد بما أنزلنا جميع الشرع ولكنه بعيد بالمعنى لأن ذلك لا يعرف ويزول الشك فيه إلا بأدلة العقل لا بالسماع من مؤمني بني إسرائيل، وقوله {ولا تكونن من الذين كذبوا} الآية، مما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمراد سواه.
قال القاضي أبو محمد: ولهذا فائد، ليس في مخاطبة الناس به وذلك شدة التخويف لأنه إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من مثل هذا فغيره من الناس أولى أن يحذر ويتقي على نفسه.


جاء في هذا تحذير مردود وإعلام بسوء حال هؤلاء المحتوم عليهم، والمعنى أن الله أوجب لهم سخه في الأزل وخلقهم لعذابه فلا يؤمنون، ولو جاءهم كل بيان وكل وضوح إلا في الوقت الذي لا ينفعهم فيه إيمان، كما صنع فرعون وأشباهه من الخلق وذلك وقت المعاينة، وفي ضمن الألفاظ التحذير من هذه الحال وبعث الكل على المبادرة إلى الإيمان والفرار من سخط الله، وقرأ أبو عمرو وعاصم والحسن وأبو رجاء كلمة بالإفراد، وقرأ نافع وأهل المدينة {كلمات} بالجمع، وقد تقدم ذكر هذه الترجمة، وقوله {فلولا كانت قرية آمنت} الآية، في مصحف أبيّ وابن مسعود {فهلا} والمعنى فيهما واحد، وأصل {لولا} في الكلام التحضيض أو الدلالة على منع أمر لوجود غيره، فأما هذه فبعيدة عن هذه الآية لكنها من جملة التي هي للتحضيض بها، أن يكون المحضض يريد من المخاطب فعل ذلك الشيء الذي يخصه عليه، وقد تجيء {لولا}، وليس من قصد المخاطب أن يحض المخاطب على فعل ذلك الشيء فتكون حينئذ لمعنى توبيخ كقول جرير: [الطويل]
لولا الكمي المقنعا ***
وذلك أنه لم يقصد حضهم على عقر الكمي، كقولك لرجل قد وقع في أمر صعب: لولا تحرزت، وهذه الآية من هذا القبيل.
قال القاضي أبو محمد: ومفهوم من معنى الآية نفى إيمان أهل القرى، ومعنى الآية فهلا آمن من أهل قرية وهم على مهل لم يلتبس العذاب بهم فيكون الإيمان نافعاً في هذه الحالة، ثم استثنى قوم يونس، فهو بحسب اللفظ استثناء منقطع، وكذلك رسمه النحويون أجمع وهو بحسب المعنى متصل، لأن تقديره ما آمن من أهل قرية إلا قوم يونس والنصب في قوله {إلا قوم} هو الوجه، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا النصب، وكذلك مع انقطاع الاستثناء ويشبه الآية قول النابغة:
إلا الأواري ***
وذلك هو حكم لفظ الآية، وقالت فرقة: يجوز فيه الرفع وهذا اتصال الاستثناء، وقال المهدوي: والرفع على البدل من {قرية} وروي في قصة قوم موسى: أن القوم لما كفروا أوحى الله إليه: أن أنذرهم بالعذاب الثلاثة، ففعل فقالوا: هو رجل لا يكذب فارقبوه، فإن قام بين أظهركم فلا عليكم، وإن ارتحل عنكم فهو نزول العذاب لا شك، فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا ودعوا الله وآمنوا ولبسوا المسوح وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم، والعذاب منهم فيما روي عن ابن عبّاس على ثلثي ميل، وروي عن علي ميل، وقال ابن جبير غشيهم العذاب كما يغشي الثوب القبر فرفع الله عنهم العذاب فلما مضت الثلاثة وعلم يونس أن العذاب لم ينزل قال كيف أنصرف وقد وجدوني في كذب فذهب مغاضباً كما ذكر الله في هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وذهب الطبري إلى أن قوم يونس خصوا من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب ذكر ذلك عن جماعة من المفسرين وليس كذلك، والمعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي تلبس العذب أو الموت بشخص الإنسان كقصة فرعون، وأما قوم يونس فلم يصلوا هذا الحد، وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف وعيسى بن عمر وابن وثاب والأعمش يونِس بكسر النون وفيه للعرب ثلاث لغات ضم النون وفتحها وكسرها وكذلك في يوسف، وقوله: {إلى حين}، يريد إلى آجالهم المفروضة في الأزل، وروي أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل ويقتضي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له إنه من أهل نينوى، من قرية الرجل الصالح يونس بن متى الحديث، الذي في السيرة لابن إسحاق.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14